فضلُ الأقران في تهذيبِ ملكةِ البيان

Monday, September 12, 2022

روح المجتمع -في أيِّ بنية اجتماعية- إنّما تتجسّد بأفكار أفرادها ابتداءً، وما تلبث أن تمتدَّ على متنِ الأرض بالمخالطة؛ وعليهِ، فلكلِ فردٍ ولا بدَّ دورٌ فعَّالٌ في منظومته الاجتماعية، ولا يتمُّ هذا الدور إلا على جسر اللغة لكونها وسيلة المرء للتحكُّم ببيئتهِ بوصفها أداة التفكير وثمرته [١]، ومطيَّة التواصل الثقافي الفعَّال بين الجنسِ البشريِّ على اختلافِ صورهِ.


ولمَّا كانت الدُور تُقام بالعمدِ؛ أضحت اللُّغة عماد البشريَّة الذي ترتكز عليه، ومعيار التفاضلِ بينَ الأُمم؛ فترفع أقوامًا وتحطُّ من أقوامٍ بقدر تشبُّثهم بهويَّتهم الثقافيَّة واللُغويَّة؛ إجلالًا وتعظيمًا، إذ بها -أي بالهويَّة اللُغويَّة على وجهِ الخصوص- يرتقي السُّلوك الإنسانيّ الذي نبتت اللُّغة بوجدانهِ، ويبلغ شأوًا عظيمًا على مرِّ التاريخ؛ لكونها وعاء المعرفة والخُلق والدّين، ومناط الديمومة.


يقول الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر“إن التساؤل نُسُك الفِكر“؛ ولعلَّ هذا ما يدفع المرء للتساؤل عن شأن اللُغة العربيَّة تحديدًا بوصفها رابطة العقد لخريطة المعرفة الإنسانيَّة نظير اتساع رقعة أربابها على امتداد الأرض، فالإسلامُ والعربيَّة -كما هو معلوم- مرتبطانِ لا ينفكَّان إلى أن يرِثَ اللهُ الأرضَ ومَن عليها؛ لأن العربيَّة هي الأساسُ الذي لا تقومُ مَعرفةُ الدينِ ومرادُ اللهِ مِن المكَلَّفين إلَّا عليهِ وبهِ، فها هو القرآن الكريم قد نزل ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِين﴾ [٢] فأبان نزولُهُ بلسان قريشٍ -أهل الفصاحة والبيان- مع تحدِّيهم على الإتيان بمثله وانهزامهم في حضرته عن رفعةِ هذه اللُّغة وشرفِ مكانتها، وهي إن كانت لغةً واحدة، بيدَ أن ثمّة بونٌ شاسعٌ بين روّادها ومتحدِّثيها، فتراهم يؤدون الغرض الواحد على طرائق شتَّى يتفاوت حظها في الحسن والقبول، وما من كلمة من كلامهم ولا وضع من أوضاعهم بخارجٍ عن موادِ اللُّغة وقواعدِ الجملة، لكنه حسن الاختيار في تلك المواد والأوضاع قد يعلو بالكلام حتى يسترعي سمعك ويثلج صدرك ويملك قلبك، وسوء الاختيار في شيء من ذلك قد ينزل به حتّى تمجّه أُذنك وتَغثى منه نفسك وينفر منه طبعك [٣]، فتأمّل.


ولمَّا كانت اللُّغة العربية في هذه المنزلة الرفيعة، كان امتلاك ناصية البيان ممَّا يُحمد بين النَّاس، فمن أُوتي الملَكة اللُّغوية فقد أُوتي فضلًا عظيمًا. أمَّا أصلُ لَفظِ (مَلَكة) وفقَ ما جاءَ في معاجمِ اللُّغة؛ فيدلُّ على قوةٍ في الشَّيءِ وصِحَّة، وقد عرّفه د. البَشير عصام المراكشي في كتابه (تكوينُ المَلَكة اللُّغويَّة) بـ ”سجيَّةٍ راسخةٍ في النَّفسِ تُمكِّنُ صاحِبَها من قوَّةِ الفَهمِ لدَقائِقِ الكلامِ العربيِّ الفصيحِ، وحُسنِ التَّعبيرِ عن المعاني المُختلِفة، بلسانٍ عربيٍّ سالمٍ مِن أوضارِ العُجمةِ ومفاسِدِ اللَّحنِ، مع القُدرةِ على الجَمعِ والتَّفريقِ، والتَّصحيحِ والإعلالِ، ونحو ذلك“. [٤] ولابن خلدون رأيٌ يستحق النظر في هذا الباب حيثُ يشير إلى اقترانِ حِيازة الملَكات بفعل التِّكرار ويقول؛ ”والمَلَكاتُ لا تحصل إلَّا بتكرارِ الأفعال لأن الفعلَ يقع أولًا وتعود منه للذات صفةٌ ثم تتكرَّر فتكون حالًا ومعنى الحال أنها صفة غيرُ راسخةٍ ثم يزيد التكرارُ فتكون مَلَكة = أي صفة راسخة.“[٥] وأجدني أتفق معه في أثر التكرار على رسوخ الملَكات والمواهب إذ أنَّ الدربة والدأب يعينان المرء على ما استعصى، فتلين دونه المراغب الصلدة، لكنّني على يقيٍن بأنَّ الملَكات إنَّما تتخلَّق مع المرء وتكون جزءًا من تكوينه، ثمَّ تصقل بالممارسة، وكذا الأمرُ مع البيانِ وسائرِ الفنونِ والمعارف.


كنتُ قد أشرتُ في مطلع مقالي هذا لحقيقة أن للأفراد أثرًا على بنية المجتمع، وهذا ما يحدث على ثلاثةِ مستوياتٍ -وثلاث أقران- يؤثّرون تأثيرًا جليّا لا تُخطئه عين على تجويدِ اللسانِ وتهذيبِ ملَكة البيان، وقد قسَّمتها كالتالي: مستوى المحيط البشري (أرباب البيان العالي)، ومستوى المحيط المعرفي/الثقافي، ومستوى الاستعداد الفطري (الذّاتي). 


أمَّا القِرنُ الأوّل فهو تصديقٌ لما نُسب لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه-:

”يُقاسُ المرءُ بالمرءِ         إذا ماهو ما شاهُ“


وكما أنّ للمرء بصمة جينيةٌ فريدة، فلهُ بصمته اللُّغوية التي تتشكَّل بالزمان وعَقِب المخالطة والمشاكلة، فتجد حديث المحبِّ مصطبغًا بصبغةِ قرينهِ بشكلٍ تلقائيّ جرّاء الوفاق وطول المُلازمة، بل ولعلّك تسمع على لسانهِ كلمةً من دارجتك المحليّة فيكون بها بيان الوداد حقًّا لا بترديد ألفاظ التودُّد، وقد يرزقك الله بمن يجيد قراءة ما يجول في نفسك، فيكون أبصر ما يكون بخوالجك، ويُحسن الإبانة عمّا يعترِك بين أضلعك بلغة جزلةٍ ترِدها فترفَعك، وقد يكون المعنى أوسع ممّا تُبديه ألفاظك فيحسن عند غيرك اصطياد المراد الأوَّل منه والمراد التبعيّ ويكون أفصح منك بيانًا في استظهار المعاني؛ فهذا المتنبّي أشعر العرب كان يقول لمن يسائله عن معنى من أشعارهِ ”اذهبوا إلى ابن جنّي فإنه يقول لكم ما أردته وما لم أرده“. ثمّ ليس للمرء منّا بدٌّ من التأثّر بمحيطهِ، لا سيما من منَّ الله عليهِ بمؤالفةِ أربابِ البيانِ العالي وخاصّةِ أهل العلم؛ فتتّسع آفاقه بمعايشتهم، وتلذّ في نفسهِ المعارف على إثر ما لمسه على أقرانهِ من تبدّل أحوالهم، وارتقاء هممهم، فيستعذب اللأواء حتّى يبلغ الشمم امتثالًا، وما كان ليهتدي -بعد لطف الله- إلّا بارتياد ركب النُخب ممّن عرفهم، ومن اقتفى آثارهم وحمل بين جنبيه نفحة من عبيرهم. يقول ابن تيمة -رحمه الله- في هذا ”واعلم أن اعتياد اللُّغة يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيراً قويًّا بيّناً، ويؤثر أيضاً في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق“. [٦] ذلك أن أفعالنا الواعية متفرعة عن جوهرٍ لا واعٍ [٧] مشكِّل من التأثيرات المحيطة على مرّ الزمان.


أمَّا بالنسبةِ للقِرنِ الثّاني فيقول ابن خلدون ”اعلم أنّ صناعة الكلام نظمًا ونثرًا إنما هي في الألفاظ لا في المعاني، وإنما المعاني تبع له، وهي أصل، فالصانع الذي يحاول مَلَكَة الكلام في النظم أو النثر إنما يحاولها في الألفاظ بحفظ أمثالها من كلام العرب ليكثر استعماله وجريه على لسانه حتى تستقر له المَلَكَة في لسان مضر ويتخلَّص من العُجمة التي رَبِيَ عليها في جيله، ويفرض نفسه مثل وليد نشأ في جيل العرب، ويُلَقَّن لُغتهم كما يُلَقَّنها الصبيّ حتى يصير كأنه واحد منهم في لسانه، وذلك أنّ اللسان مَلَكَة من الملكات في النطق يحاول تحصيلها بتكرارها على اللسان حتى تحصل“. [٨] ويوافقه الجرجاني فيقول ”ضيق الألفاظ يؤدّي إلى ضيق المعاني“[٩] وهذا ممَّا يؤكّد على أن مناط اكتساب اللغة هو اتساع رقعة الحصيلة اللُّغوية، فيكون الأثر تراكميًّا مع الزمان عبر الانكباب على مناهل اللُّغة الجزلة، ممّا يؤدّي إلى انتقال الألفاظ إلى الذاكرة طويلة الأمد فيصبح استدعائها تلقائيًا دون مجهود ذهني وهو ما يعرف بعمليَّات التحدُّث التلقائي Speech Production Processes وهذا ممَّا لا يُنال إلّا بدربةٍ مكثّفة على سمتِ الكلامِ الأوّل، وهو ما يجده المرء متى بحث عن مفاتيحِ اللُّغة في مظانها؛ بين ثنايا القرآن الكريم والشِّعر الفصيح وكتب المتقدمين من أهلِ اللُّغة، يقول الطناحي في شأن تثبيت أركان اللُّغة ”إن طبيعة تعلّم العربيَّة تقتضي حفظ كثير من النصوص؛ لتثبيت القواعد والتمكين للأبنية والتراكيب في ذهن طالب العلم، وقد قيل: الحفظ الإتقان“ فإن كان هذا شأن الألفاظ، فللمعاني عليها درجة لكونها المبينة عن الخلجات، وهي التي تسبق اللفظ المُبين عنها لتخرج بهيئتها المثلى، إذ أنَّ فضل الكلام على الكلام إنما يكون بغزارة المعنى، فالشأن كلّ الشأن إذن للكلمةِ في التركيب لا للكلمة المنفردة، والعرب لم يحمدوا الألفاظ من حيث هي جرسٌ ورنينٌ ونغمٌ تسمعه الآذان، كما يشير الدكتور محمد أبو موسى في دروسه، وإنّما حمدوه لأن فيه شيئًا يقع في الأفئدة، وهي -أي المعاني- ما تستوجب الفهم ”ولن يستطيع الفهم إلّا من فرّغ قلبه للتفهّم، كما لا يستطيع الإفهام إلَّا من صحَّت نيَّته في التعليم“ [١٠] فكان لا بدَّ من المجانسةِ بين اللفظِ والمعنى حتّى يملك المرء زمام البيان وتكون فيه كالجبِلَّة التي ينشأ عليها.


أمَّا القِرنُ الثّالث فممّا لا يشوبه شكّ أن النَّاس يتفاوتون في الاستعداد الفطري للمعرفة، وهو ما يطلق عليه علم النفس الحديث "الفروق الفردية"، فتجدهم يتباينون في القدرات العقلية والذكاء والتحصيل العلمي والمهارات، والذكاء اللغوي إنّما هو فرعٌ من عشرة أنواع مختلفة من الذكاء يتعاضد بعضها ببعض، ”وكم من ناظر مفكر لم يُحصِّل العلم ولم يَنَلْه، كما أنّه كم من ناظر إلى الهلال لا يبصره، ومستمع إلى صوت لا يسمع“. [١١] وكما أنهم متنوِّعون في ترتيب الوجوب فهم مُتنوِّعون في ترتيب الحصول علمًا وعملاً من بعد. 


فالمرء متى كان ذا استعدادٍ فطريّ لامتلاك ناصية البيان، وسافر بين مظانها رغبةً في تحصيل مفاتيحها، وخالط أربابها مخالطةً تنفعه وتسمو به في سماوات الفصاحة والحصافة فقد أذنَ لهذهِ النفس التي بين عطفيه أن تتسربل حُليّ اللُّغة ومحاسنها؛ عقلًا ودينًا وعاطفة، وهذا والله تمام السؤدد، لذا ففي كلِّ مرّة تلوح فيها فكرة اللُّغة وفضل مخالطة أربابها في ذهنك تذكّر؛ تولد كلُّ الأجنَّةِ عارية، إلَّا جنين الفكرِ فيولد متلبّسًا باللغة. [١٢]

”إنَّ الكلام لفي الفؤادِ وإنَّما         جُعل اللسانُ على الفؤادِ دليلًا“



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[١] الهوية اللغوية والأمن اللغوي: دراسة وتوثيق - تأليف: عبدالسلام المسدّي

[٢] سورة الشعراء - آية ١٩٥

[٣] النبأ العظيم - محمد دراز صـ١١٣

[٤] تكوينُ المَلَكة اللُّغويَّة - د. البَشير عصام المراكشي

[٥] مقدمة ابن خلدون صـ ٥٥٤

[٦] اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم - ابن تيمية

[٧] سيكلوجية الجماهير - غوستاف لوبون

[٨] العِبَر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر - ابن خلدون

[٩] دلائل الإعجاز - عبدالقاهر الجرجاني

[١٠] الحيوان - الجاحظ ٥/٥٤٢

[١١]  فتاوى الرياض ٩/٣٠٨ - ابن تيمية

[١٢] مغالطات لغوية: الطريق الثالث إلى فصحى جديد - عادل مصطفى


0 comments:

Post a Comment

Top