مرآةٌ على رفِّ الحياة

Friday, November 6, 2020

 خُضتُ البارحة عددًا من الحوارات حول مسألة التشابه في العلاقات الإنسانية؛ بدأت بتغريدةٍ للفاضل ماهر أمير؛ مرّت عليّ تباعًا بتعليقاتٍ من عدّة كرام؛ تدور حول فلك أثر اختيار الشريك على شريكه؛ يقول فيها

 «ما زلت أعجب ممن يطلب امرأةً ضعيفة الثقافة ضيقة المدارك والخبرات الحياتية! ما هذا الكائن الممل المتكل الذي تريده؟ بل براجماتيا ستستفيد وتنجو من قلق التوعية والرعاية المستمرة مع تلك القيمة بنفسها وعقلها! الأعجب أني وجدت نساءً يطلبن رجالا بهذه الصفة! لرخاوة زمامهم ويسر انقيادهم»

 واسمحوا لي بأن أورد لكم خلاصتها هنا:


شخصيًا أرى أنّ النّفس البشرية تنزع إلى المشاكلة بحيث تجذب ما يماثل قوّتها وهذا ما ذهب إليه عدد من أفذاذ الأمة كابن حزم وابن القيم؛ «إنما هو تشاكل النفوس وتمازجها في الطباع المخلوقة»، فمن تهفو نفسه إلى من هو أقل/أضعف منه؛ إنّما يميل لمن يشاكل طبيعته الغائرة وإن أبدى صلابة على سطح نفسه والعكس، وبالتالي فلستُ ممّن يعتقدُ بثنائية التسلّط والجهل بشكلٍ جوهريّ؛ إذ أرى أنّ الأمر أبعد من مجرّد نوع من الاشتباك من حيث أنّ الأقوى يتغذّى على الأضعف؛ وأقول أن المتسلّط في طبيعته خور على الإطلاق بل وهوانه في نفسه هو محرّك اضطرابه السلوكيّ، وهذا مشاهد في العلاقات الإنسانية؛ في العمل ومقاعد الدراسة مثلًا؛ يستأسد المرء بالتأييد، ولو رأيته فردًا لألفيته واهنًا هشًّا، وبالتالي فأجزم أنّ المبالغة في إظهار القوّة إنّما هو دليل هشاشة نفسية أصيلة، والعكس صحيح؛ إذ يميل المتّزن لمن يشاكل سجيّته، وتكون قوّته حينئذ في هذا الاشتراك الجميل مع الآخر الذي يتكامل معه ويرقى في ظلاله، وبناءً على هذا؛ فلستُ أؤمن بأن معيار التفاضل مبني على الثقافة والجهل ولا أرى أنّه مناط الاعتبار في الانجذاب والتنافر؛ بل هي مسألة نفسية خالصة في تركيبة المرء تتعاضد معها الظروف ويبني عليها المرء اختياراته في دوائره الاجتماعية بشكل تلقائي! ولي هنا لفتة = عندي يقين يخامر نفسي بأنّ المرء منّا يتأثّر بمحيطه، في أي نظام اجتماعي كان؛ والعلاقة الصحيّة في هذه الحالة علاقة داعمة رافعة، وهذا جوهر التواد = أن ينهض بك، لا أن ينفض يده ويعلّق التبرير على شماعة الـ"الآخر أقل همّة/ثقافة"؛ وهذا برأيي ما يهب العلاقة قدسيتها = ما يجعلها تبلغ  في النّفس التي تُحسن التصنيف شأوًا رفيعًا عاليًا؛ وهو ما يجعلنا نسكن إلى أرواح أقل من أصابع اليد الواحدة كلّما تقادم بنا الزمان، فيكونوا هم خاصّتنا وجندنا المجنّد الذي نرقى معه.


وأحبّ أن أشير هنا لمصطلح اجتماعي موافق لفكرة الانجذاب للتشابه القائم بين الأفراد في المجتمعات وهو ما يدعى -في علم الاجتماع- بـ«هموفيليا» وهذا تمامًا ما تقوم عليه الشبكات الاجتماعية؛ من حيث تقريب الأشباه، وزيادة فرص اشتباكهم وتكوين الروابط فيما بينهم. ‏وهو باب مثير للاهتمام حقيقةً من حيث التأثير المجتمعي الذي يساهم في تطوير الأفراد والجماعات بصورة أكثر فاعلية؛ فضلًا عن التأثير الأعمق على الآخر الذي يشترك معنا في الصفات والأفكار والمبادئ؛ وهذا يقود للعلاقات المتكافئة التي -على الأرجح- تكون ذات أثر مستدام على عدّة مستويات. تجدر الإشارة لمعنًى أؤمن به مفاده أنّا مهما تشابهنا فلن نتطابق بشكل محضٍ تام؛ حتّى في أفكارنا المتوافقه وطباعنا؛ نحنُ صورة التراكمات الثقافية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية؛ ولعل المبادئ واحدة وأتصوّرها كالجذر؛ لكنّ للجذع تفريعات متباينة وهذا ما يجعلها تشتبك بانسجام ويمتد ظلها. وبالمناسبة؛ فهذا المعنى لا يتعارض مع حقيقة أنّ «شبهُ الشيء منجذبٌ إليهِ» على كل حال؛ بل يتعاضد معه.


وفي الواقع فممّا أؤمن به كذلك أنّ التشابه وارد على المستوى الداخلي للفرد، وليس مناط الظواهر فقط كما يزعم البعض، وبالتالي فلستُ على وفاقٍ مع فكرة أنّ الأصل في التكوين المادي والمعنوي الاختلاف على الإطلاق، إنّما أظنّ أنّ العلاقة قائمة على المشتركات أكثر من كونها تماثل وتباين؛ بمعنى لا يشترط أن نكون نسخة تامة ولا نقيض هذا؛ إنّما نلتقي في نقاط، وننسجم في نقاط، ونتنافر في أخرى وهكذا، ولعلي أراه أكثر منطقية بهذه الصورة، وإن كنتُ لا أعارض فكرة أنّ الاختلاف يخلق فرصًا للتعايش والتعارف؛ لكنّي أقيس على البون الشاسع بين نفسين دون نقاط التقاء يعوّل عليها = مساحة الاختلاف أوسع وأكثر تأصيلًا، هنا تتقلّص رقعة الموافقة والانسجام والتعايش بطبيعة الحال؛ انطلاقًا من الحاجة الفطرية للمشاكلة؛ وهذا يذكرني بما قاله ابن حزم «فليس في قوّةِ الطبيعة أن تقاوِمَ كلَّ ما يرِدُ عليها دون استعانةٍ بما يشاكلها، وهو من جنسها».


ختامًا؛ استوقفني معنى جميل أتفق معه جملة وتفصيلًا ورد على لسان رشيد رضا؛ يقول «المرأة التي تجهل قيمة زوجها المعنوية ومعارفه التي يمتاز بها لا يهنأ لها معه عيش؛ لأنها لا ترى عمله إلا شاغلاً له عنها؛ كأنه ضرَّة لها وهو لا يهنأ له معها عيش؛ لأنه  يراها جاهلة بقدره، بعيدة عنه في نفسه وعقله. وإن شئت قلت: إنهما يكونان شخصين متباعدين بالروح والعقل لا يمكن أن تتكون منهما حقيقة الزوجية.» وهذه لفتة في غاية الأهميّة، تقودني لخلاصة أن المشاكلة والاشتباك ومفهوم الاشتراك في "وأشركه في أمري"؛ عناصر مهمة في أيّ علاقة إنسانية، وهي في العلاقة الزوجية المقدّسة أجلّ وأعظم.

Coffee Buns

Sunday, September 20, 2020


من أمتع التجارب في هذه الدنيا تجربة تحضير ما تُحب لمن تُحب، سيَما أن الخبز يعدّ لغة من لغات الحب لمن يتقن التحدث بها والإنصات لنغماتها الحنونة. أحببتُ تمرير وصفتي هذه لتستمتعوا بوجبة إفطار دافئة مع أحبابكم، ولتتعطر جنبات دياركم برائحة الوداد والأُلفة، حيث تتناغم رائحة القهوة القويّة مع القرفة الدافئة لتصنع صباحًا مثاليًا. الوصفة معتمدة عندي من عدة أعوام، ولا ينفك أهلي وأحبّتي يطلبوها في كل حين .. لذا، أعدكم بلذة منقطعة النظير لا تنقطع؛ قطع قطنية القوام بقشرة مقرمشة وتضاد جميل بين الحلاوة والملوحة تتناغم مع النكهة المميزة التي تبقى عالقة بذاكرتك مع آخر قضمة.


مقادير التغطية "زبدة القهوة"

(تحضّر قبل العجينة وتُحفظ بالثلاجة)

1 كوب زيدة طرية = 240غ تقريبًا

1 1/3 كوب سكر

3 بيضات

2 ملعقة كبيرة قهوة سريعة التحضر؛ مذابة بًملعقة كبيرة من الماء

ملعقة كبيرة قرفة مطحونة

1 2/3 كوب طحين منخول


الطريقة

نخفق الزبدة مع السكر حتّى يصبح المزيج هشًّا وبلون فاتح "كريمي القوام".
يضاف البيض بالتدريج.
يضاف مزيج القهوة ثمّ القرفة.
ينخل الطحين ويضاف تدريجيًا، ويمزج بشكل يدوي وببطء حتّى تتجانس المكونات، ثمّ يفرّغ في أقماع ويحفظ بالثلاجة.


مقادير العجينة

3 2/3 كوب طحين

2 1/2 ملعقة كبيرة حليب بودرة

1/3 كوب سكر

1 ملعقة صغير ملح

1 ملعقة كبيرة خميرة فورية

1 بيضة

1 1/8 كوب ماء

1/4 كوب زبدة = 85غ تقريبًا


الطريقة

تخلط المكونات الجافة (الطحين، الحليب، السكر، الملح).
تضاف الخميرة والبيض والماء وتُعجن على سرعة بطيئة لمدة دقيقة، ثمّ على سرعة متوسطة لمدة 8 دقائق.
تضاف الزبدة الطريّة ونتابع العجن حتّى نحصل على قوام مرن وطري.
تقسّم لقطع متساوية بوزن 62غ وتكوّر وتترك لترتاح لمدة ربع ساعة.
نجهز 70غ زبدة مملحة ونقطعها لمكعبات بحجم 5غ ونحشي العجين، وتترك لتتخمر لمدة ساعة أو 45 دقيقة.
يغطّى سطحها بتغطية زبدة القهوة المحضّرة سابقًا، وتُخبز لمدة 12 - 15 دقيقة على حرارة 180 درجة مئوية أو 350 فهرنهايت .. ويحمّر سطحها لدقيقتين. تقدّم دافئة .. صحة وهنا.




ملاحظات مهمة

- التغطية "زبدة القهوة" تكفي لعمل دفعتين من العجين = 28 قطعة، ومقادير العجين هنا تكفي لـ14 قطعة تقريبًا.
- يمكن خبز "زبدة القهوة" بشكل منفصل، والنتيجة بسكويت مقرمش بالنكهة المميزة.
- يفضّل إضافة ماء دافئ للعجينة حتّى نسرّع من عملية التخمير.
- في حال عدم توفر زبدة مالحة، يمكن استخدام زبدة غير مملحة مع رشة ملح قبل حشوها.

تأمّلات من وحي سطح المكتب

Monday, August 3, 2020

أُودع بين الأسطر معانٍ مستوحاة من بضع مواقفٍ يومية جُلت فيها بين أروقة الحياة المهنية على امتداد تجاربي ووجدتها تضع على الأرواح إهابًا نبيلًا يكسوها رفعة وجمال؛ بعضها تشرّفت بأن أكون جزءًا منها، والبعض الآخر شهدتها وخالطت نفسي نفحة من آثارها، وددت معها أن تبقى على مرأى من عيني حتّى تستقر بي وتكون للعابر ساحل هادئ يتخفف على ضفافه من أوزار دنياه.


(١) من بيننا من يغالبه ميزانه الداخلي حتّى على نطاق لغته وتعبيراته، ومنّا من يعيد وزن الكّفتين فيه قسرًا وفق معطياتٍ مقولبة (إفعل/لاتفعل)؛ وكلاهما على شأنٍ واحد؛ يقف عند الكلمة الدارجة يستنطق معناها، غير أنّ الأوّل يقيّد المعنى بأهواء المتلقّي؛ والثّاني لمّاح يعيد صياغة المعنى على مقتضى السياق؛ فإن لمح إيحاءً سلبيًا استبدله بما يوائم أجواءه ليحلّ عقد المعنى فيعود منسابًا، أفكّر هنا لو أنّا نتّبع ذات الآلية في حواراتنا اليومية -المكتوبة والمنطوقة-؛ لو أنّا نستبدل "لا أرغب/ لا تفعل" بـ"أحبّ لك/ماذا لو/ما رأيك أن"؟ لو أنّا ندخل للنّاس من باب ما تهوى أنفسهم، من باب ما تطيب به صدورهم وتسمو معه أرواحهم؛ لا من باب ما ينفض عن كاهلنا أحمالها على متن سوانا على سبيل التخفّف المثقِل.

(٢) يجلّك النّاس بقدر ما تجلّ نفسك وتجلّ سواك -طوعًا لا رهبة-؛ لا يمكن لمن يقلل من استحقاقه الذاتي واستحقاق الأفراد في محيطه الخارجي أن يطالب باحترام النّاس لتسعه أوعيتهم، وخير النّاس أرفقهم بأضعفهم.

(٣) لا يخلو إنسان من نفور يعتلج في نفسه نحو شخص/شيء، وخيار الناس من كتم تحيّزه العاطفي وقوّم اعوجاج تعامله بوتد المهنيّة زمنًا حتّى يتعرّش عليه؛ فلا يُبدي للنّاس انكماش نفسه نحو فرد ولا تتثاقل خطاه في تأدية مهمّة معلّقًا مسوّغاته على شمّاعة ما يُنفره؛ بل يجعل ما لا يحبّ سبيلًا لما يحب بالتأنّي والمجاهدة: ولو تأمّلنا مليًا في هذه القيمة لوجدنا أن الدنيا لا تنال إلا بالمكابدة، ولا تلين إلا من بعد عهد التعريك.

(٤) تطيب الحياة بالجُسور التي تبنى بين الأنفس بشكل تلقائي؛ وأطيب النّاس حياة من مدّ سواه بالألفة والطمأنينة فباتت تتوق الحوائج لتستطيب بندى كفّيه؛ يقصده زملاءه بطلب خدمة ودّية لثقتهم به واطمئنانهم له.

(٥) ما وضعت السماحة في امرئ قط إلا وجدت القلوب تهفو إليه، وما علمت أرفق على الإنسان -في نفسه وقوله وفعله- من بشاشة محيطه به؛ وكأنه يذكي في القلوب معاني البهجة بمجرّد هذا التواجد، وما علمت أطيب للمرء من سيل الضحكات العفوية المتصاعدة حوله حتّى ما تكاد تجد للتجهم موضعًا في محيّاه وفضائه. لا شيء يهزم المشاق والأتراح مثل أن تحوّلها لنكتة في موضعٍ يحتملها، وكأنما الضحك يقتات على وحشيتها، ويعيدها سيرتها الأولى = فكرة وديعة تسبح في الأجواء؛ وهذا أنفذ سهمًا وأجدى نفعًا من مقاومتها بالحزم.

(٦) للنفس قوّتان؛ قوّة في الصّمت وقوّة في الإفضاء، والعاقل من تحرّى المواقيت واستجاب وفق مقام المواقف وسياق الأحداث؛ فتجده يصمت في الموضع الذي يكون لكلامه وقع السهام الغادرة، فليجم هواه ويتريّث لكيلا يصيب قومًا بجهالة، ومثله من يصمت ويشيح بلغته عن المناقص لئلا يكون ظهيرًا لظالمي أنفسهم، وخير منهما -عندي- من صمت في موضع تغالبه فيه نفسه لينال حظوة أو يبلغ منزلة رفيعة، فيؤثر غيره على نفسه ويرى في رفعة سواه رفعة له وإن جهله النّاس.

(٧) من جنود الضياء في عالمنا = هؤلاء الذين يتلمّسون الحوائج دون أن يدفعهم إليها أحد من العالمين؛ فتراهم يتسابقون إلى كل موطنٍ من مواطن الخير، ويسعون فيها سعيهم لأنفسهم وإن لم ينلهم منها قدر أنملة من نفع، ومن صورة ذلك من يحارب في معركة لا تعلم عنها شيء ليسترد حقّك أو يعطيك فوق ما تأمل في قرارٍ إداريّ ما بلغك منه غير نصّه الذي انفرجت له أساريرك راحةً وسرورًا.


هذا ما يحضرني الآن، ولعلي أُبقي الباب مواربًا -كما أحب- لأعود بحزمة منتخبة متى لانت الأسباب بإذن الله.

Top