خُضتُ البارحة عددًا من الحوارات حول مسألة التشابه في العلاقات الإنسانية؛ بدأت بتغريدةٍ للفاضل ماهر أمير؛ مرّت عليّ تباعًا بتعليقاتٍ من عدّة كرام؛ تدور حول فلك أثر اختيار الشريك على شريكه؛ يقول فيها
«ما زلت أعجب ممن يطلب امرأةً ضعيفة الثقافة ضيقة المدارك والخبرات الحياتية! ما هذا الكائن الممل المتكل الذي تريده؟ بل براجماتيا ستستفيد وتنجو من قلق التوعية والرعاية المستمرة مع تلك القيمة بنفسها وعقلها! الأعجب أني وجدت نساءً يطلبن رجالا بهذه الصفة! لرخاوة زمامهم ويسر انقيادهم»
واسمحوا لي بأن أورد لكم خلاصتها هنا:
شخصيًا أرى أنّ النّفس البشرية تنزع إلى المشاكلة بحيث تجذب ما يماثل قوّتها وهذا ما ذهب إليه عدد من أفذاذ الأمة كابن حزم وابن القيم؛ «إنما هو تشاكل النفوس وتمازجها في الطباع المخلوقة»، فمن تهفو نفسه إلى من هو أقل/أضعف منه؛ إنّما يميل لمن يشاكل طبيعته الغائرة وإن أبدى صلابة على سطح نفسه والعكس، وبالتالي فلستُ ممّن يعتقدُ بثنائية التسلّط والجهل بشكلٍ جوهريّ؛ إذ أرى أنّ الأمر أبعد من مجرّد نوع من الاشتباك من حيث أنّ الأقوى يتغذّى على الأضعف؛ وأقول أن المتسلّط في طبيعته خور على الإطلاق بل وهوانه في نفسه هو محرّك اضطرابه السلوكيّ، وهذا مشاهد في العلاقات الإنسانية؛ في العمل ومقاعد الدراسة مثلًا؛ يستأسد المرء بالتأييد، ولو رأيته فردًا لألفيته واهنًا هشًّا، وبالتالي فأجزم أنّ المبالغة في إظهار القوّة إنّما هو دليل هشاشة نفسية أصيلة، والعكس صحيح؛ إذ يميل المتّزن لمن يشاكل سجيّته، وتكون قوّته حينئذ في هذا الاشتراك الجميل مع الآخر الذي يتكامل معه ويرقى في ظلاله، وبناءً على هذا؛ فلستُ أؤمن بأن معيار التفاضل مبني على الثقافة والجهل ولا أرى أنّه مناط الاعتبار في الانجذاب والتنافر؛ بل هي مسألة نفسية خالصة في تركيبة المرء تتعاضد معها الظروف ويبني عليها المرء اختياراته في دوائره الاجتماعية بشكل تلقائي! ولي هنا لفتة = عندي يقين يخامر نفسي بأنّ المرء منّا يتأثّر بمحيطه، في أي نظام اجتماعي كان؛ والعلاقة الصحيّة في هذه الحالة علاقة داعمة رافعة، وهذا جوهر التواد = أن ينهض بك، لا أن ينفض يده ويعلّق التبرير على شماعة الـ"الآخر أقل همّة/ثقافة"؛ وهذا برأيي ما يهب العلاقة قدسيتها = ما يجعلها تبلغ في النّفس التي تُحسن التصنيف شأوًا رفيعًا عاليًا؛ وهو ما يجعلنا نسكن إلى أرواح أقل من أصابع اليد الواحدة كلّما تقادم بنا الزمان، فيكونوا هم خاصّتنا وجندنا المجنّد الذي نرقى معه.
وأحبّ أن أشير هنا لمصطلح اجتماعي موافق لفكرة الانجذاب للتشابه القائم بين الأفراد في المجتمعات وهو ما يدعى -في علم الاجتماع- بـ«هموفيليا» وهذا تمامًا ما تقوم عليه الشبكات الاجتماعية؛ من حيث تقريب الأشباه، وزيادة فرص اشتباكهم وتكوين الروابط فيما بينهم. وهو باب مثير للاهتمام حقيقةً من حيث التأثير المجتمعي الذي يساهم في تطوير الأفراد والجماعات بصورة أكثر فاعلية؛ فضلًا عن التأثير الأعمق على الآخر الذي يشترك معنا في الصفات والأفكار والمبادئ؛ وهذا يقود للعلاقات المتكافئة التي -على الأرجح- تكون ذات أثر مستدام على عدّة مستويات. تجدر الإشارة لمعنًى أؤمن به مفاده أنّا مهما تشابهنا فلن نتطابق بشكل محضٍ تام؛ حتّى في أفكارنا المتوافقه وطباعنا؛ نحنُ صورة التراكمات الثقافية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية؛ ولعل المبادئ واحدة وأتصوّرها كالجذر؛ لكنّ للجذع تفريعات متباينة وهذا ما يجعلها تشتبك بانسجام ويمتد ظلها. وبالمناسبة؛ فهذا المعنى لا يتعارض مع حقيقة أنّ «شبهُ الشيء منجذبٌ إليهِ» على كل حال؛ بل يتعاضد معه.
وفي الواقع فممّا أؤمن به كذلك أنّ التشابه وارد على المستوى الداخلي للفرد، وليس مناط الظواهر فقط كما يزعم البعض، وبالتالي فلستُ على وفاقٍ مع فكرة أنّ الأصل في التكوين المادي والمعنوي الاختلاف على الإطلاق، إنّما أظنّ أنّ العلاقة قائمة على المشتركات أكثر من كونها تماثل وتباين؛ بمعنى لا يشترط أن نكون نسخة تامة ولا نقيض هذا؛ إنّما نلتقي في نقاط، وننسجم في نقاط، ونتنافر في أخرى وهكذا، ولعلي أراه أكثر منطقية بهذه الصورة، وإن كنتُ لا أعارض فكرة أنّ الاختلاف يخلق فرصًا للتعايش والتعارف؛ لكنّي أقيس على البون الشاسع بين نفسين دون نقاط التقاء يعوّل عليها = مساحة الاختلاف أوسع وأكثر تأصيلًا، هنا تتقلّص رقعة الموافقة والانسجام والتعايش بطبيعة الحال؛ انطلاقًا من الحاجة الفطرية للمشاكلة؛ وهذا يذكرني بما قاله ابن حزم «فليس في قوّةِ الطبيعة أن تقاوِمَ كلَّ ما يرِدُ عليها دون استعانةٍ بما يشاكلها، وهو من جنسها».
ختامًا؛ استوقفني معنى جميل أتفق معه جملة وتفصيلًا ورد على لسان رشيد رضا؛ يقول «المرأة التي تجهل قيمة زوجها المعنوية ومعارفه التي يمتاز بها لا يهنأ لها معه عيش؛ لأنها لا ترى عمله إلا شاغلاً له عنها؛ كأنه ضرَّة لها وهو لا يهنأ له معها عيش؛ لأنه يراها جاهلة بقدره، بعيدة عنه في نفسه وعقله. وإن شئت قلت: إنهما يكونان شخصين متباعدين بالروح والعقل لا يمكن أن تتكون منهما حقيقة الزوجية.» وهذه لفتة في غاية الأهميّة، تقودني لخلاصة أن المشاكلة والاشتباك ومفهوم الاشتراك في "وأشركه في أمري"؛ عناصر مهمة في أيّ علاقة إنسانية، وهي في العلاقة الزوجية المقدّسة أجلّ وأعظم.