أُودع بين الأسطر معانٍ مستوحاة من بضع مواقفٍ يومية جُلت فيها بين أروقة الحياة المهنية على امتداد تجاربي ووجدتها تضع على الأرواح إهابًا نبيلًا يكسوها رفعة وجمال؛ بعضها تشرّفت بأن أكون جزءًا منها، والبعض الآخر شهدتها وخالطت نفسي نفحة من آثارها، وددت معها أن تبقى على مرأى من عيني حتّى تستقر بي وتكون للعابر ساحل هادئ يتخفف على ضفافه من أوزار دنياه.
(١) من بيننا من يغالبه ميزانه الداخلي حتّى على نطاق لغته وتعبيراته، ومنّا من يعيد وزن الكّفتين فيه قسرًا وفق معطياتٍ مقولبة (إفعل/لاتفعل)؛ وكلاهما على شأنٍ واحد؛ يقف عند الكلمة الدارجة يستنطق معناها، غير أنّ الأوّل يقيّد المعنى بأهواء المتلقّي؛ والثّاني لمّاح يعيد صياغة المعنى على مقتضى السياق؛ فإن لمح إيحاءً سلبيًا استبدله بما يوائم أجواءه ليحلّ عقد المعنى فيعود منسابًا، أفكّر هنا لو أنّا نتّبع ذات الآلية في حواراتنا اليومية -المكتوبة والمنطوقة-؛ لو أنّا نستبدل "لا أرغب/ لا تفعل" بـ"أحبّ لك/ماذا لو/ما رأيك أن"؟ لو أنّا ندخل للنّاس من باب ما تهوى أنفسهم، من باب ما تطيب به صدورهم وتسمو معه أرواحهم؛ لا من باب ما ينفض عن كاهلنا أحمالها على متن سوانا على سبيل التخفّف المثقِل.
(٢) يجلّك النّاس بقدر ما تجلّ نفسك وتجلّ سواك -طوعًا لا رهبة-؛ لا يمكن لمن يقلل من استحقاقه الذاتي واستحقاق الأفراد في محيطه الخارجي أن يطالب باحترام النّاس لتسعه أوعيتهم، وخير النّاس أرفقهم بأضعفهم.
(٣) لا يخلو إنسان من نفور يعتلج في نفسه نحو شخص/شيء، وخيار الناس من كتم تحيّزه العاطفي وقوّم اعوجاج تعامله بوتد المهنيّة زمنًا حتّى يتعرّش عليه؛ فلا يُبدي للنّاس انكماش نفسه نحو فرد ولا تتثاقل خطاه في تأدية مهمّة معلّقًا مسوّغاته على شمّاعة ”ما يُنفره“؛ بل يجعل ما لا يحبّ سبيلًا لما يحب بالتأنّي والمجاهدة: ولو تأمّلنا مليًا في هذه القيمة لوجدنا أن الدنيا لا تنال إلا بالمكابدة، ولا تلين إلا من بعد عهد التعريك.
(٤) تطيب الحياة بالجُسور التي تبنى بين الأنفس بشكل تلقائي؛ وأطيب النّاس حياة من مدّ سواه بالألفة والطمأنينة فباتت تتوق الحوائج لتستطيب بندى كفّيه؛ يقصده زملاءه بطلب خدمة ودّية لثقتهم به واطمئنانهم له.
(٥) ما وضعت السماحة في امرئ قط إلا وجدت القلوب تهفو إليه، وما علمت أرفق على الإنسان -في نفسه وقوله وفعله- من بشاشة محيطه به؛ وكأنه يذكي في القلوب معاني البهجة بمجرّد هذا التواجد، وما علمت أطيب للمرء من سيل الضحكات العفوية المتصاعدة حوله حتّى ما تكاد تجد للتجهم موضعًا في محيّاه وفضائه. لا شيء يهزم المشاق والأتراح مثل أن تحوّلها لنكتة في موضعٍ يحتملها، وكأنما الضحك يقتات على وحشيتها، ويعيدها سيرتها الأولى = فكرة وديعة تسبح في الأجواء؛ وهذا أنفذ سهمًا وأجدى نفعًا من مقاومتها بالحزم.
(٦) للنفس قوّتان؛ قوّة في الصّمت وقوّة في الإفضاء، والعاقل من تحرّى المواقيت واستجاب وفق مقام المواقف وسياق الأحداث؛ فتجده يصمت في الموضع الذي يكون لكلامه وقع السهام الغادرة، فليجم هواه ويتريّث لكيلا يصيب قومًا بجهالة، ومثله من يصمت ويشيح بلغته عن المناقص لئلا يكون ظهيرًا لظالمي أنفسهم، وخير منهما -عندي- من صمت في موضع تغالبه فيه نفسه لينال حظوة أو يبلغ منزلة رفيعة، فيؤثر غيره على نفسه ويرى في رفعة سواه رفعة له وإن جهله النّاس.
(٧) من جنود الضياء في عالمنا = هؤلاء الذين يتلمّسون الحوائج دون أن يدفعهم إليها أحد من العالمين؛ فتراهم يتسابقون إلى كل موطنٍ من مواطن الخير، ويسعون فيها سعيهم لأنفسهم وإن لم ينلهم منها قدر أنملة من نفع، ومن صورة ذلك من يحارب في معركة لا تعلم عنها شيء ليسترد حقّك أو يعطيك فوق ما تأمل في قرارٍ إداريّ ما بلغك منه غير نصّه الذي انفرجت له أساريرك راحةً وسرورًا.
هذا ما يحضرني الآن، ولعلي أُبقي الباب مواربًا -كما أحب- لأعود بحزمة منتخبة متى لانت الأسباب بإذن الله.